سورة النمل - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


قلت: {ولوط}: عطف على {صالحا} داخل معه في القسم، أي: ولقد أرسلنا صالحاً ولوطاً. و{إذ قال}: ظرف للإرسال، أو: منصوب باذكر، و{إذ قال}: بدل من {لوط}.
يقول الحق جل جلاله: {و} لقد أرسلنا {لوطاً}، أو: واذكر لوطاً {إِذْ قال لقومه} أي: وقت قوله لهم: {أتأتونَ الفاحشةَ} أي: الفعلة المتناهية في الفُحش والسماجة، {وأنتم تبصرون} أي: الحالة أنكم تعلمون علماً يقينياً أنها فاحشة، لم تُسبَقوا إليها. والجملة الحالية تفيد تأكيد الإنكار، فإنَّ تعاطيَ القبيح من العالم بقُبحه أقبح وأشنع، ولذلك ورد في الخبر: «أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامةِ عَالِمٌ لم ينْفَعْهُ الله بعلْمِه». وقال الفخر: لا تصدر المعصية من العالم قط وهو عالم، وحين صدورها منه هو جاهل؛ لأنه رجح المرجوح وترجيح المرجوح جهل، ولذلك قال: {بل أنتم قوم تجهلون}. اهـ.
وفي الحديث: «لا يَزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» إذ لو صدّق بإطلاع الحق عليه ما قدر على الزنى، لكنه جهل ذلك. و{تُبصرون}، من: بصر القلب. وقيل: يُبصر بعضُكم بعضاً؛ لأنهم كانوا يرتكبونها في ناديهم، معلنين بها، لا يستتر بعضهم من بعض، مَجانةً وانهماكاً في المعصية، أو: تُبصرون آثار العصاة قبلكم، وما نزل بهم.
{أئنكم لتَأْتون الرجالَ شهوةً} أي: للشهوة {من دون النساء} أي: إن الله تعالى إنما خلق الأنثى للذكر، ولم يخلق الذكر للذكر، ولا الأنثى للأنثى، فهي مضادة للهِ تعالى في حكمته، فلذلك كانت أشنع المعاصي، {بل أنتم قوم تجهلون}؛ تفعلون فعل الجاهلين بقُبحها، أو: تجهلون العاقبة. أو: بمعنى السفاهة والمجون، أي: بل أنتم سُفهاء ماجنون. والتاء فيه- مع كونه صفة لقوم؛ لكونهم في حيز الخطاب. وكذا قوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47]، غلّب الخطاب على الغيبة. قال ابن عرفة: {بل} للانتقال، والانتقال في باب الذم إنما يكون عن أمر خفيف إلى ما هو أشد منه، وتقرير الأشدّية هنا: أن المضروب عنه راجع للقوة الحسية العملية، وهي منقطعة تنقضي بانقضاء ذلك الفعل والثاني راجع للقوة العلمية وهي دائمة؛ لأن العلم بالشيء دائم، والعمل به منقطع غير دائم. اهـ.
{فما كان جوابَ قومه} حين نهاهم عن تلك الفاحشة ودعاهم إلى الله، {إلا أن قالوا أَخْرِجوا آلَ لوط} أي: لوطاً ومتبعيه {من قريتكم إنهم أُناس يتطهرون}؛ يتنزهون عن أفعالنا، أو: عن القاذورات، ويعدون فعلنا قذراً. وعن ابن عباس: إنه استهزاء، كقوله: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87].
{فأنجيناه}: فخلّصناه من العذاب الواقع بالقوم، {وأهلَه إلا امرأتَه قدرناها} بالتشديد والتخفيف، أي: قدرنا أنها {من الغابرين}؛ الباقين في العذاب. {وأمطرنا عليهم مطراً} غير معهود؛ حجارة مكتوب عليها اسم صاحبها، {فساءَ}: قَبُحَ {مطرُ المنذَرِينَ} الذين لم يقبلوا الإنذار. وقد مرّ كيفية ما جرى بهم غير مرة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: ما أنكر لوط على قومه إلا غلبة الشهوة على قلوبهم، والانهماك في غفلتهم، فرجعت إلى معصية القلوب، وهي أشد من معصية الجوارح؛ لأن معصية الجوارح إذا صحبتها التوبة والانكسار، عادت طاعة، بخلاف معصية القلوب؛ فإنها تنطمس بها أنوار الغيوب، فلا يزيد صاحبها إلا البُعد والطرد. والعياذ بالله.


يقول الحق جل جلاله: لنبيه- عليه الصلاة والسلام-: {قل الحمدُ لله} على ما أنعم به عليك من فنون النعم، ومن جملتها: اطلاعك على أسرار علم غيوبه، {وسلامٌ على عباده الذين اصطفى} لرسالته. وقال ابن عباس وسفيان: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم بصحبته- عليه الصلاة والسلام- وقال الكلبي: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، اصطفاهم الله لمعرفته وطاعته. ثم قل لهم إلزاماً للحجة: {الله خير أما تشركون} أي: آلله الذي ذكرت شؤونه العظيمة خير، أم ما تشركونه معه تعالى من الأصنام؟ ومرجع الترديد إلى التعرض بتبكيت الكفرة، وتسفيه آرائهم الركيكة، والتهكم بهم، إذ من البيِّن أن ليس فيما أشركوه به تعالى شائبة خير، حتى يمكن أن يوازن بينه وبين من لا خير إلا خيره، ولا إله غيره.
وكان عليه الصلاة والسلام إذا قرأها قال: «بلِ الله خيْرٌ، وأَبْقَى، وأجلُّ، وأكْرَم».
ثم عدَّد سبحانه الخيرات والمنافع، الدالة على انفراده بالخيرية، فقال: {أمّن خَلَق السماواتِ والأرضَ}، أم هنا: منقطعة، بخلاف {أمَّا تشكرون} أي: بل أمّن خلق العالم العلوي والسفلي، وأفاض من كل واحد ما يليق به من الخيرات، خير، أم جماد لا يقدر على شيء؟ فمن: مبتدأ، وخبرها: محذوف مع أم المعادلة للهمزة، كما قررنا.
{وأنزل لكم من السماء ماءً}. مطراً {فأنبتنا}، التفت من الغيبة إلى التكلم؛ تأكيداً لمعنى اختصاص الفعل به تعالى، وإيذاناً بأن إنبات الحدائق المختلفة الأصناف والألوان، والطعوم والأشكال، مع بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه غيره، أي: فأخرجنا {به حدائقَ}: بساتين، فالحديقة: بستان عليه حائط، من: الإحداق، وهو الإحاطة، {ذاتَ بهجةٍ} أي: ذات حُسن ورونق، تبتهج به النظار، ولم يقل: ذوات: لأن المعنى: جماعة حدائق، كما تقول: النساء ذهبت. {ما كان لكم}؛ ما صح وما أمكن لكم {أن تُنبتوا شجرها} فضلاً عن ثِمارها وسائر صفاتها البديعة المبهجة، {أَإِلهٌ مع الله}؟ أي: أإله كائن مع الله، الذي ذكرت أفعاله، التي لا يقدر عليها غيره، حتى يُتوهم جعله شريكاً له تعالى في العبادة؟ أو: أإله مع الله يفعل ذلك؟ {بل هم قوم يَعْدِلون}: بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق بالكلية، والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور، فلذلك يفعلون ما يفعلون من الإشراك والجرائم، أو: يعدلون به غيره فيُشركونه معه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قل الحمد لله، الذي كشف الحجب عن قلوب أوليائه، وسلام على عباده الذين اصطفاهم لحضرته، آلله خير، أي: أشهود الله وحده في الوجود خير، أم شهود الغير معه؟، فتشركون في توحيدكم. أمن خلق سموات أرواحكم، وهيأها لشهود الربوبية، وخلق أرض نفوسكم، وهيأها لآداب العبودية، وأنزل لكم من سماء الغيوب ماء الواردات الإلهية، فأنبتنا به في قلوب العارفين بساتين المعرفة، ذات بهجة ونزهة؟ ما كان لكم، وفي طوقكم، أن تُنبتوا في قلوبكم شجر المعرفة، ولا ثمار المحبة، أإله مع الله يمنّ عليكم بذلك؟. بل هم قوم يعدلون عن طريق الوصول إلى هذه البساتين البهية؛ لأنها محفوفة بالمكاره النفسية، لا يقدر على سلوكها إلا الشجعان، أهل الهمم العلية. وبالله التوفيق.


يقول الحق جل جلاله: {أمَّن جعلَ الأرضَ قراراً} أي: قارة ثابتة، ليستقر عليها الإنسان والدواب، بإظهار بعضها من الماء، ودحوها وتسويتها، حسبما يدور عليه منافعهم. {وجعل خلالها}؛ أواسطها {أنهاراً} جارية ينتفعون بها، {وجعل لها رواسيَ} أي: جبالاً ثوابت، تمنعها أن تميد بأهلها، ولتتكون فيها المعادن، وينبع من حضيضها المنابع. {وجعل بين البحرين} أي: العذب والمالح، أو: خليجي فارس والروم {حاجزاً}؛ برزخاً مانعاً من المعارجة والمخالطة، {أإله مع الله} في الوجود، أو: في إبداع هذه البدائع؟ {بل أكثرهم لا يعلمون} شيئاً من الأشياء، ولذلك لا يفهمون بطلان ما هم عليه من الشرك مع كمال ظهوره.
الإشارة: أم من جعل أرض النفوس قراراً، لتستقر عليها أحكام العبودية، وتتصرف فيها أقدار الربوبية، وجعل خلالها أنهاراً من علوم الشرائع، وما يتعلق بعالم الحكمة من الحِكَم والأحكام، وجعل لها جبالاً من العقل لتعرف صانعها ومدبرها، وجعل بين بحر الحقيقة والشريعة حاجزاً وبرزخاً، وهو نور العقل؟ فما دام العقل صاحياً ميّز بين الحقيقة والشريعة، فيلزمه التكليف، ويعطي كل ذي حق حقه. فإذا سكر وغاب نوره سقط التكليف. وقد تُشرق على نور قمر العقل شمسُ العرفان، فتغطيه مع وجود صحوه، فيميز بين الحقائق والشرائع، وتكون عبادته أدباً وشكراً. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8